عن التفاؤل والقضاء والقدر والنصيب وأشياء أخرى نتحدث
من أكثر القضايا الشائكة التي حاولت مناقشتها ودراستها حقيقة ً هي قضية التفاؤل والتشاؤم
ربما لأنها أثرت في بصورة قوية في مرحلة من مراحل حياتي وربما لأني أدركت معناها في وقت مبكر
وكوننا في مجتمع مُصاب بعلل نفسية كثيرة تنتهي دوما ً بعلل جسدية متعددة
فإن التشاؤم دوما ً متلازم مع أي اكتئاب نفسي يصيب الفرد في مجتمعنا
والظاهرة الجديدة التي أصبحت جلية هي انتشار تلك الطبيعة التشاؤمية وسط الشباب من صغار السن بصورة عجيبة
فهذا شاب في مقتبل عمره لم يتجاوز الـ 18 ولم يمر من قبل في حياته بمشاكل حقيقية كي يدرك حجم المسؤولية !! تجده يحيك في عبارات التشاؤم وتجد وجه مسودا ً في انتظار المصيبة القادمة وكأن الله خلقنا في هذه الحياة كي نعيش في مصيبة تلو الأخرى فقط . ـ
×××××
ولكن الحقيقـة أن التشاؤم هو مهرب ، ومخرج اجتماعي يمثل أسهل طريقة للهروب من المشاكل قبل حدوثها فأنت تهيء نفسك للمشكلة قبل حدوثها ، لا من أجل أن تتعامل مع المشكلة بمنطقية وتقوم بحلها ولكن فقط لتتفادى آثارها النفسية التي لن تستطيع بنفسيتك الضعيفة أن تتحملها أو أن تواجهها
الأمر يشبه كثيرا ً ما يفعله النعام من دفن لرأسه في الرمال عند شعوره بالخطر
×××××
من عيوب الشخصية التشاؤمية انشغالها دوما ً بالتفكير في المستقبل ، ولكن ليس كل من يفكر في المستقبل هو متشائم
فالتفكير في المستقبل هنا هو كذلك بنظرة تشاؤمية بحتة تقودك لتوقع المشاكل في كل سلسلة من الأحداث ستقوم بها
لذلك تجد هذا النوع من الشخصيات يحاول دوما ً تفادي كل الطرق التي قــد تؤدي إلى وقوع مشكلة حتى لو كان هناك نوع من الفائدة سيعود عليه في حال سلوكه هذا الطريق
ولكنه حقيقة ً ليس لديه الاستعداد لدفع تلك الضريبة من مواجهة المشاكل التي لم يعتد على مواجهتها من قبل
×××××
قد أكون قاسيا ً قليلا ً على المتشاءمين وقد يتهمني البعض بالنظرة القاصرة ، ولكن في وسط مجتمع انتشر فيه مرض الاكتئاب المزمن بصورة متفشية ، حتى أنه أصبح يصيب الشباب والأطفال ، حينها دعني أتحدث عن التشاؤم كمادة خام للاكتئاب ودعني أقسو بقوة على كل ما يدعو للتشاؤم
×××××
لست هنا بصدد الحديث عن الأسباب التي تدفعك للتفاؤل فلقد تحدثت عنها مسبقا ً هنا
ولكن أبسط ما ينهاك عن التشاؤم أن فيه اعتراض على قضاء الله وقدره وعدم تقبل له ، وفيه ضحد لواقع صحيح وهو أن الله خلقنا بتوازن تام ، فيوم سعيد ويوم حزين ، يبتليك الله بالاختبارات كي يكتب لك السعادة لاحقا ً بعد تخطيها بصبر وثبات
ويكفي أنه قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان متفائلا ً وأن التفاؤل محمود في عُرف الإسلام
×××××
ينبغي قبل أن أستطرد في كلامي عن طريقة تفكير المتشائمين أن أفرق بين التشاؤم في أمور مستقبلية متعلقة بأحداث حاضرة والتشاؤم عموما ً بدون سبب واضح
فالتشاؤم الأول محرم شرعا ً وفيه إشراك بالله ، ولسنا بصدد الحديث عنه لأنه ينتقد نفسه بنفسه وفيه منافاة للواقع ومثله من يقضي يومه متشائما لأنه رأى قطـة سوداء في الصباح ، أو لأنه كسر مرآة أو غيره
×××××
نعـود مرة أخرى لذلك المتشائم العبوس ، لماذا يتشاءم ؟
ربما كما قلنا لأنها أسهل الطرق لتجنب الألم المستقبلي ، فأنت تجهز نفسك واقعيا ً للأسوأ فإذا أصابك فستتحمله واذا لم يصبك فستشعر بضِـعــف سعادتك إن لم تكن قد تشاءمت
ولكن هذه الفكرة عمليا ً ليست حقيقية ولا تطبيقية ، فأنت في جميع الأحوال ستشعر بالأسى والحزن إذا أصابك ما تشاءمت به سواء أسبقته بالتشاؤم والتوقع أم لم تسبقه
فكونك مثلا ً لا قدر الله توقعت وفاة شخص قريب إليك لا يتعارض مع أنك ستحزن بنفس المقدار إن توفى
×××××
الحقيقة الواقعة هنا أن تشاؤم سيمنعك من المحاولة لإيجاد حلول مستقبلية وسيجنبك دوما ً المواجهة وسيبقيك في دائرة من العزلة الاجتماعية
فأنت ان فكرت مثلا ً في المثال السابق ، ستجد أنه كان من الأفضل لو شغلت وقتك في الدعاء مثلا ً لقريبك بدلا ً من التفكيرفي المستقبل الحالك ِ بدونه
ولكن تشاؤمك وانغماس أفكارك في تلك الدوامات السوداء منعك من ذلك
×××××
كذلك دعنا نتحدث عمن يتشاءم هروبا ً من مشكلة ما ، فإذا كانت هذه المشكلة في مقياسه عظيمة وفي مقياس البشر تافهة
فماذا سيفعل إذا واجه مشكلة حقيقية من مشاكل الحياة التي تجبرك على التفكير فيها بكل قسوة وبكل حيرة ؟
وقتها سيشعر بصدمة رهيبة لأنه لم يعتد من قبل على أن يواجه مشاكله سوى بأسلوب الهرب المدعو بالتشاؤم
×××××
دعونا نتساءل مرة أخرى ، إذا كنا نقتنع بشدة بمبدأ القضاء والقدر والنصيب إذا ً فلماذا نتشاءم من الأصل ؟
قد يبدو الأمر نابعا ً من الاعتياد على مبادئ فعالة ولكن بدون اقتناع حقيقي بها ، فأنت إن كنت مقتنعا ً فعلا بذلك المبدأ فلن تتشاءم أبدا ً ولن تضيع وقتا ً في العبس خوفا ً من المستقبل أو في التفكير في العواقب المتتالية لسلسلة الأحداث التي مررت بها في نهاية يومك
×××××
فلنعد الآن إلى التفاؤل وهل هو بالوردية التي يبدو عليها أم لا ؟
التفاؤل حقيقة في كثير من الأحوال قد يبدو بدون فائدة ، ولكن ما يميز التفاؤل دوما ً هو أنه يتيح لك مساحة من العيش في راحة البال والسعادة والعمل بدون قلق ٍ غير مبرر من المستقبل ، فإذا فكرت قليلا ً ستجد نفسك قد أشغلت بالك قلقا ً بما يستدعي القلق وبما لا يستدعي القلق ، فالتفاؤل هنا يمحو الشطر الثاني ليصفي ذهنك لما يستدعي القلق فعلا ً فتقوم بالعمل من أجله والسعي لعلك تجد حلا ً له
×××××
أنت هنا أمامك سلعتان ، الأولى قد تفيدك والثانية قد تضرك
وفي كلتا الحالتين قد تخرج خالي الوفاض بدون فائدة وبدون ضرر
أعتقد أن العاقل قد يختار الأولى ، ولكن لا حياة لمن تنادي فمن تكونت طريقة تفكيره ونضج عقليا ً بمفهومه فمن الصعب تغييره
أمثـال هؤلاء لن يتغيروا قط حتى يواجهوا مشكلة حقيقـية فاصـــلة ً في حياتهم وقتها سيتعلم هؤلاء
الدرس الصعب في كيفية التأمل والتفكير في المستقبل
في الحقيقة الأمور لن تنتهي أبدا ً بتلك البساطة
دوما ً سنجد من هم بيننا ينظرون إلى الكوب فيجدونه نصف ممتلئ وهناك من ينظرون إليه فيجدونه نصف فارغ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق